كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وما روي عن ابن عباس وعبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما أنهما قالا: سجدة التلاوة في الحج هي الأولى، والثانية سجدة الصلاة.
قالوا: وهذا المروي عن ابن عباس وابن عمر هو تأويل ما روي عن عقبة بن عامر على فرض صحته، مع أنّ فيه مقالا، وكذا في حديث عمرو بن العاص، وإليك ما قيل فيهما:
أما حديث عقبة فقال الترمذي وأبو داود وغيرهما: إن إسناده ليس بالقوي، قالوا: لأنّ فيه عبد اللّه بن لهيعة، وقال الحاكم: إن عبد اللّه بن لهيعة أحد الأئمة، وإنما نقم اختلاطه في آخر عمره.
وأما حديث عمرو بن العاص فقيل فيه: إنّه ضعيف أيضا، لأنّ في سنده عبد اللّه بن منين الذي قال فيه عبد الحق: إنّه لا يحتج به، وقال ابن القطان: إنه مجهول، لا يعرف له حال. وقالا أيضا: إنّ الراوي عن ابن منين هو الحارث بن سعيد العتقي المصري وهو لا يعرف أيضا. اهـ.
قال اللّه تعالى: {وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم هُوَ سَمَاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شهداء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}.
الجهاد: هو بذل الطاقة، واستفراغ الوسع في مدافعة العدو، وهو قسمان عظيمان، تحت كل منهما أنواع، فالقسم الأول جهاد العدو الباطن، وتحته نوعان:
1- جهاد النفس.
2- جهاد الشيطان.
والقسم الثاني: جهاد العدو الظاهر، وتحته ثلاثة أنواع:
1- جهاد الكفار.
2- جهاد المنافقين.
3- جهاد أهل الظلم والبدع والضلالات الاعتقادية والعملية.
فالجهاد في القسم الأول يكون بمخالفة هوى النفس، ومدافعة وساوس الشيطان. وهذا هو أصل الجهاد، وأشدّ أنواعه، وهو الجهاد الأكبر، كما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما عاد من غزوة تبوك قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».
ولهذا كان فرض عين على كل فرد، لا يغني فيه أحد عن أحد شيئا، وفرضيته ثابتة من مبدأ الإسلام.
وكذلك جهاد أهل الظلم والبدع، فهو فريضة على كل مكلف على حسب استعداده، وبقدر استطاعته، كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
أما جهاد الكفار والمنافقين، فإنّه يكون بالحجة والبيان، كما يكون جهاد الكفار أيضا بالسيف والسنان. فجهادهم بالحجة واجب أيضا من مبدأ البعثة، كما في الأنواع السابقة، يشهد لذلك قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَلَوْ شيءنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان] فالمجاهدة بالقران لا شك أنها من نوع الجهاد بالحجة والبرهان، وهذا النوع فرض كفاية على الأمة، يتصدى له أهل القدرة عليه من العلماء الواقفين على أسرار الشريعة، العارفين بمسالك القول وطرائق الإقناع.
أما الجهاد بالسيف وغيره من آلات القتال فهذا هو الذي لم يشرع إلا بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وهو فرض كفاية على المسلمين، يجزئ فيه أن يقوم به بعضهم متى كانوا قادرين على أن يصدوا غارات العدو، وأن يدفعوه عن بقية المسلمين وبلادهم، وإلا فعلى حسب ما يرى الإمام، حتى لو أعلن النفير العام كان فرض عين على كلّ واحد من القادرين على القتال.
وبعد فقد اختلف العلماء في المراد بالجهاد في قوله تعالى: {وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ} فعن ابن عباس أنّ المراد به قتال الكفار والمشركين، وهو مرويّ عن الضحاك أيضا. وعن عبد اللّه بن المبارك: أنه مخالفة النفس والهوى، والأولى أن يحمل على المعنى العام الذي يشمل هذا وذاك.
وقد علمت فيما سبق أنّ الراجح في سورة الحج أنها مدنية ما عدا آيات ليست هذه الآية منها، فلا يكون حينئذ مانع من حمل الجهاد على ما يشمل قتال الكفار وغيره، أما على اعتبار أنها مكية فيتعين تفسير الجهاد بجهاد النفس والشيطان على ما هو معروف، إذ إن القتال لم يفرض إلا بعد الهجرة.
والجهاد في اللّه معناه الجهاد في سبيله، ومن أجل دينه، وحقّ الجهاد في اللّه أن يكون بقوة وعزيمة صادقة، وأن يكون خالصا لإعلاء دين اللّه وتأييد شريعته، فلا ينبغي للمسلم أن يخشى في الانتصار للحق لومة لائم، كما لا يجوز له في جهاد الكفار أن يقاتل من أجل غنيمة أو غيرها من الشهوات الدنيوية.
وعلى تفسير حق الجهاد بذلك تكون الآية محكمة غير منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} كما يقول مجاهد والكلبي، فإنّهما يقولان: إنّ حقّ الجهاد غاية لا يستطيعها عامّة المكلفين، فإنّها قد تتجاوز الوسع وحد الاستطاعة، ولَكِنك قد علمت الصواب في ذلك.
وإضافة حق إلى جهاد في قوله تعالى: {حَقَّ جِهادِهِ} من إضافة الصفة للموصوف: كما يقال: حق يقين، وشبيه به قولهم فلان حق عالم، وهو جد ذكي، أما إضافة جهاد للضمير في قوله: {جِهادِهِ} فهي لأدنى ملابسة. وذلك لأنّ هذا الجهاد لما كان مطلوبا للّه ومن أجل دينه كان خاصّا به سبحانه وتعالى، فصحّ أن تقع فيه هذه الإضافة التي تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه وأصله: وجاهدوا في اللّه حق جهادكم فيه، فحذف المضاف إليه، والجار للضمير فاتصل الضمير بالمضاف.
{هُوَ اجْتَباكُمْ} الاجتباء: الاصطفاء والاختيار. وهذه الجملة واقعة في مقام التعليل للأمر بالجهاد، فاللّه وفّق المسلمين لقبول الإسلام، واختارهم لدينه، وشرّفهم بأن يكونوا خدام شريعته، يقيمونها، ويحفظونها ممن يريدها بتحريف أو عدوان، فجدير بمن اختارهم اللّه لهذا الأمر العظيم أن يبذلوا كل ما عندهم من استطاعة في حماية دينه، وألا يهملوا رعايته، أو يهنوا في حراسته، ولا شكّ أنّ الحكم بأنه سبحانه قد اجتبى المسلمين لذلك، من خير ما يبعثهم على أن يجاهدوا في اللّه حق الجهاد.
{وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحرج: الضيق كما فسره بذلك ابن عباس ومجاهد.
أكد اللّه بهذا وجوب الجهاد على الناس، ولزوم محافظتهم على الدين الذي اختارهم لحمايته، فإنّه نفى أن يكون في أحكامه شيء من العسر والشدة التي تضيق بها صدورهم، ولا تتسع لها قدرهم، وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون هناك مانع يمنعهم من مراعاتها، كما لا يكون لهم عذر إذا تهاونوا فيها، ولم يقوموا بخدمتها حق القيام، ما دام قد تحقّق المقتضى للجهاد، وهو اجتباؤهم، وانتفى المانع، وهو الحرج في التكاليف، وأنت خبير بأن هناك فرقا كبيرا بين المشقة في الأحكام الشرعية وبين الحرج والعسر فيها، فإنّ الأولى حاصلة، قلما تخلو عنها التكاليف، فإنّ التكليف هو إلزام ما فيه كلفة ومشقة.
أما المشقة الزائدة التي تصل إلى حد الحرج فهي المرفوعة عن المكلفين فقد فرض اللّه الصلاة على المكلف في اليوم خمس مرات، وأوجب عليه أن يؤديها من قيام، وهذا شيء لا حرج فيه، ثم هو إذا لم يستطع الصلاة من قيام فله رخصة أن يصلي من قعود، أو بالإيماء. وكذلك شريعة الصيام لا تصل فيها المشقة إلى درجة العسر، إذ إن المفروض على الناس صيام شهر في كل عام، ومع ذلك فقد رخّص اللّه للمكلّف في حالات تعظم فيها المشقة عليه أن يفطر، فأباح الفطر لكلّ من المسافر والمريض والهرم والحامل والمرضع، وهكذا تجد جميع التكاليف في ابتدائها ودوامها مراعى فيها التخفيف والتيسير على العباد، كما يشهد بذلك قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وغير ذلك في هذا المعنى كثير.
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} الملة والدين والشريعة شيء واحد، وكلمة مِلَّةَ منصوبة على المصدرية بفعل يدلّ عليه قوله تعالى: {وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فإنه يفيد معنى التوسعة، أي وسع عليكم في دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم، فحذف المصدر المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ويصحّ أن تكون منصوبة على الاختصاص بفعل تقديره: أعني ملة أبيكم إبراهيم، وقيل: إنها منصوبة على الإغراء أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم وظاهر أنه على الإعراب الأول لا يكون في الكلام دلالة على أنّ شريعتنا هي شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وحينئذ فلا مانع من تفسير الملة بالأحكام الشرعية كلها الاعتقادية والعملية، أما الإعرابان الآخران فإنّهما يدلان على اتحاد الشريعتين، وعلى هذا ينبغي قصر الملة على الأحكام الأصلية المتعلقة بالاعتقاد، إذ لا شك أنها واحدة في شريعتنا وشريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بل هي واحدة في جميع الشرائع لم تتغير بتغير الأزمان والأقوام، اقرأ قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أوحينا إِلَيْكَ وما وَصَّيْنا بِهِ إبراهيم وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] وقوله تعالى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء أولاد علّات».
يريد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة، وعلى هذا يكون تخصيص إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالذكر ليقويّ تمسك المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بشريعته إذ إنّ أكثرهم من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهم يحبونه حب الأبناء للآباء، ولا شكّ أنّ هذا الحب يقوّي فيهم روح الاستمساك بشريعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كانت هي شريعة أبيهم إبراهيم من قبل. وقد تبين لك من هذا معنى أبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام للمؤمنين من هذه الأمة.
ويصحّ أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام أب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم السعيدة في الآخرة.
{هُوَ سَمَاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} وفي هذا اختلف العلماء في مرجع الضمير من قوله: {هُوَ سَمَاكُمُ} فعن ابن زيد والحسن: أن الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، سمانا المسلمين قبل نزول القرآن، وذلك ظاهر، وسمانا المسلمين في القرآن لأنه تسبب في هذه التسمية بقوله: {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] فلما استجاب اللّه دعاءه، وجعلنا أمة مسلمة من ذريته، كان إبراهيم كأنّه سمانا مسلمين.
وذهب ابن عباس ومجاهد والضحاك إلى أن المسمّي هو اللّه جل شأنه، ويؤيد هذا الرأي قراءة أبي بن كعب {اللّه سماكم المسلمين} وابقاء الإسناد على ظاهره خير من التأويل فيه، وجعله مستعملا في حقيقته ومجازه.
واللام في قوله تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} إما لام العاقبة، وهي متعلقة بسماكم على الوجهين في ضميره، وشهادة الرسول على أمته معناها الإخبار بأنّه قد بلّغهم رسالة ربه، وإما لام التعليل.
وعلى في قوله: {عَلَيْكُمْ} بمعنى اللام، على حد قوله تعالى: {وما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] ومعنى شهادة الرسول لهم أن يزكيهم عند اللّه يوم القيامة، ويشهد بعدالتهم إذا شهدوا على الأمم السابقين ويكون التعبير بعلى لما في الشهيد من معنى الرقيب والمهيمن.
وقد تبين لك أنّه لابد على هذين الوجهين من التأويل في قوله تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} إما في اللام وإما في كلمة على والسبب في ذلك هو أنه لم يظهر للقائلين بهما الوجه في أن يعلل تعديل هذه الأمة وتسميتها مسلمة بشهادة الرسول عليها، إذ المستقيم إنما هو تعليل ذلك بقبول شهادتها على غيرها.
والحق أنه لا حاجة لذلك التأويل، ولا مانع من بقاء كل من: على واللام على أصل معناه. ويكون قول شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم على الأمة علة في الحكم بعدالة ذلك الحكم الذي دلّت عليه تسميته مسلما، إذ لا شك أنه صلى الله عليه وسلم مسلم للّه، وأنه سيد المسلمين، فهو داخل في قوله تعالى: هُوَ سَمَاكُمُ الْمُسْلِمِينَ دخولا أوليا، ويكون قبول الشهادة من أمته على الأمم الأخرى علة في تسميتها مسلمة كذلك. ويكون في الكلام تفصيل في الشهادة بعد إجمال في التسمية بالمسلمين، وهذا وجه وجيه لا خفاء فيه.
قد يقال: إنه بعد هذا كله لا يظهر التعليل إلا إذا كانت التسمية بالمسلمين واقعة من اللّه تعالى، كما هو أحد الرأيين، فإنّه واضح جدا أن يقال: سماهم اللّه مسلمين هذه التسمية الدالّة على حكمه بعدالتهم، ليقبل شهادتهم على غيرهم، أما إذا كانت التسمية من إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما هو الرأي الآخر، فلا يظهر ذلك التعليل، إذ يكون معنى الكلام عليه: سماهم إبراهيم هذه التسمية التي تضمّنت حكمه بعدالتهم، ليقبل اللّه شهادتهم على الناس يوم القيامة وفيه ما ترى.
والجواب: أنّ تسمية سيدنا إبراهيم إياهم بالمسلمين قد أقرّها اللّه تعالى، فكأنّ الحكم بعدالتهم صادر منه جل شأنه، فيكون اللّه هو الذي عدّلهم ليقبل شهادتهم، وهذا الجواب مستقيم ولا غبار عليه.
وبعد... فشهادة النبي صلى الله عليه وسلم وشهادة أمته يوم القيامة يثبت بها شرف عظيم له عليه الصلاة والسلام ولهذه الأمة، فإنّ اللّه تعالى يصدّق قوله يوم القيامة على أمته في دعوى تبليغه إياها، لَكِن سائر المرسلين مع عصمتهم سوف يحتاجون لإثبات ما يدّعون على أقوامهم إلى من يشهد لهم بين يدي اللّه عز وجل.
وكذلك هذه الأمة شرّفها اللّه بأن جعلها أهلا للشهادة على سائر الأمم، فهي تشهد على الناس جميعا، ولا يشهد عليها أحد منهم، إنما الذي يشهد عليها هو نبيّها الذي هو أشرف الخلق أجمعين. وفي هذا فضل كبير.
{وَتَكُونُوا شهداء عَلَى النَّاسِ} ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم فيقال للأنبياء: هل بلغتم أممكم، فيقولون: نعم بلغناهم، فينكرون فيؤتى بهذه الأمة فيشهدون أنّهم قد بلغوا، فتقول الأمم لهم: من أين عرفتم، فيقولون: عرفنا ذلك بإخبار اللّه تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق.
{فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} قد سبق لك معنى إقامة الصلاة. أما الاعتصام فمعناه اتخاذ العصمة، وهي ما يعصم الشيء ويمنعه مما يضره. فالاعتصام باللّه هو الثقة به، والالتجاء إليه، والاستعانة بقوته العظمى على دفع كلّ مكروه، وقيل: إن الاعتصام باللّه هو الاستمساك بدينه والتزام شريعته.
وهذه الجملة مرتبة بالفاء على ما قبلها، من اجتباء المخاطبين، وتسميتهم مسلمين، وتشريفهم بقبول شهادتهم على الأمم.
وقد ختم اللّه الأوامر في هاتين الآيتين بالأمر بإقام الصلاة مع سبق الأمر بها في قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} على ما علمت، ثم عطف عليه الأمر بإيتاء الزكاة لما تقدم لك كثيرا من أنهما أصل الخير وأسّ الفلاح، ثم أتبعهما الأمر بالاعتصام به سبحانه وتعالى، فإن هذا الاعتصام هو مبعث القوة، وهو سبيل الفوز، فمن استنصر باللّه نصره، ومن لاذ بحماه أمّنه، ومن استعان بقوته يسّر له أمره، وأمكنه مما يريد.
هُوَ المولى يطلق على معان: منها المالك، والناصر، والمعتق، والجار، وابن العم، والحليف. وأولاها الأول، وفي هذه الجملة هُوَ مَوْلاكُمْ عدة جميلة، تشدّ العزم، وتقوّي القلب، وتوجب الاطمئنان وحسن الاعتماد على اللّه، وهي في منزلة العلة لما قبلها من الأمر بالاعتصام، فلذلك فصلت عنه.
والمعنى: ثقوا باللّه، والجؤوا إليه، واحتموا بحمايته، لأنّه هو مالككم وخالقكم، يغار عليكم، ويحفظكم، ويدفع المكروه عنكم.
{فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} النصير العظيم النصرة، الكامل المعونة. والمخصوص بالمدح ضمير يرجع إلى اللّه تعالى. اهـ.